فصل: فتح مكة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **


 ذكر الأسباب الموجبة للسير إلى مكة وذكر فتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان

 القتال بين بكر وخزاعة ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثه إلى مؤتة جمادى الآخرة ورجبا ‏.‏

ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة ، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له ‏:‏ الوتير ، وكان الذي هاج ما بين بني بكر وخزاعة أن رجلاً من بني الحضرمي ، واسمه مالك بن عباد - وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن - خرج تاجراً ، فلما توسط أرض خزاعة ، عدوا عليه فقتلوه ، وأخذوا ماله ‏.‏

فعدت بنو بكر على رجل من بني خزاعة فقتلوه ، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزان الديلي - وهم منخر بني كنانة وأشرافهم - سلمى وكلثوم وذؤيب - فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني رجل من بني الديل ، قال ‏:‏ كان بنو الأسود بن رزن يودون في الجاهلية ديتين ديتين ، ونودي دية دية ، لفضلهم فينا ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام ، وتشاغل الناس به ‏.‏ فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، كان فيما شرطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرط لهم ‏.‏

كما حدثني الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، وغيرهم من علمائنا ‏:‏ أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه ، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة ، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأراً بأولئك النفر الذين أصابوا منهم ببني الأسود بن رزن ، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل ، وهو يومئذ قائدهم ، وليس كل بني بكر تابعه حتى بيت خزاعة وهم على الوتير ، ماء لهم ، فأصابوا منهم رجلاً ، وتحاوزوا واقتتلوا ‏.‏

ورفدت بني بكر قريش بالسلاح ، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً ، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم ، فلما انتهوا إليه ، قالت بنو بكر ‏:‏ يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم ، إلهك إلهك ، فقال ‏:‏ كلمة عظيمة ، لا إله له اليوم ، يا بني بكر أصيبوا ثأركم ، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم ، أفلا تصيبون ثأركم فيه ؛ وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلاً ، يقال له ‏:‏ منبه ‏.‏

وكان منبه رجلاً مفؤداً خرج هو ورجل من قومه يقال له ‏:‏ تميم بن أسد ، وقال له منبه ‏:‏ يا تميم انج بنفسك ، فأما أنا فوالله إني لميت ، قتلوني أو تركوني ، لقد أنبت فؤادي ، وانطلق تميم فأفلت ، وأدركوا منبها فقتلوه ، فلما دخلت خزاعة مكة ، لجئوا إلى دار بديل بن ورقاء ، ودار مولى لهم يقال له ‏:‏ رافع فقال تميم بن أسد يعتذر من فراره من منبه ‏:‏

 شعر تميم يعتذر من فراره عن منبه ‏:‏

لما رأيت بني نفاثة أقبلوا * يغشون كل وتيرة وحجاب

صخراً ورزناً لا عريب سواهم * يزجون كل مقلص خناب

وذكرت ذحلاً عندنا متقادما * فيما مضى من سالف الأحقاب

ونشيت ريح الموت من تلقائهم * ورهبت وقع مهند قضاب

وعرفت أن من يثقفوه يتركوا * لحما لمجرية وشلو غراب

قومت رجلا لا أخاف عثارها * وطرحت بالمتن العراء ثيابي

ونجوت لا ينجو نجائي أحقب * علج أقب مشمر الأقراب

تلحى ولو شهدت لكان نكيرها * بولاً يبل مشافر القبقاب

القوم أعلم ما تركت منبها * عن طيب نفس فاسألي أصحابي

قال ابن هشام ‏:‏ وتروى لحبيب بن عبدالله الأعلم الهذلي ‏.‏ وبيته ‏:‏ وذكرت ذحلا عندنا متقادما ، عن أبي عبيدة ، وقوله ‏:‏ خناب ، وعلج أقب مشمر الأقراب عنه أيضاً ‏.‏

شعر الأخزر فيما وقع بين خزاعة وبكر

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال الأخزر بن لعط الديلي ، فيما كان بين كنانة وخزاعة في تلك الحرب ‏:‏

ألا هل أتى قصوى الأحابيش أننا * رددنا بني كعب بأفوق ناصل

حبسناهم في دارة العبد رافع * وعند بديل محبسا غير طائل

بدار الذليل الأخذ الضيم بعدما * شفينا النفوس منهم بالمناصل

حبسناهم حتى إذا طال يومهم * نفحنا لهم من كل شعب بوابل

نذبحهم ذبح التيوس كأننا * أسود تبارى فيهم بالقواصل

هم ظلمونا واعتدوا في مسيرهم * وكانوا لدى الأنصاب أول قاتل

كأنهم بالجزع إذ يطردونهم * بفا ثور حفان النعام الجوافل

بديل بن عبد مناة يرد على الأخزر‏:‏

فأجابه بديل بن عبد مناة بن سلمة بن عمرو بن الأجب ، وكان يقال له ‏:‏ بديل بن أم أصرم ، فقال ‏:‏

تفاقد قوم يفخرون ولم ندع * لهم سيداً يندوهم غير نافل

أمن حنيفة القوم الألى تزدريهم * تجيز الوتير خائفا غير آئل

وفي كل يوم نحن نحبو حباءنا * لعقل ولا يحبى لنا في المعاقل

ونحن صبحنا بالتلاعة داركم * بأسيافنا يسبقن لوم العواذل

ونحن منعنا بين بيض وعتود * إلى خيف رضوى من مجر القنابل

ويوم الغميم قد تكفت ساعيا * عبيس فجعناه بجلد حلاحل

أإن أجمرت في بيتها أم بعضكم * بجعموسها تنزون أن لم نقاتل

كذبتم وبيت الله ما إن قتلتم * ولكن تركنا أمركم في بلابل

قال ابن هشام ‏:‏ قوله ‏:‏ غير نافل ، وقوله ‏:‏ إلى خيف رضوى ، عن غير ابن إسحاق ‏.‏

 شعر حسان في الحرب بين كنانة وخزاعة ‏:‏

قال ابن هشام ‏:‏ وقال حسان بن ثابت في ذلك ‏:‏

لحا الله قوما لم ندع من سراتهم * لهم أحدا يندوهم غير ناقب

أخصيي حمار مات بالأمس نوفلاً * متى كنت مفلاحاً عدو الحقائب

 خزاعة تستنجد بالرسول ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ، وأصابوا منهم ما أصابوا ، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة ، وكانوا في عقده وعهده ، خرج عمرو بن سالم الخزاعى ، ثم أحد بني كعب ، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكان ذلك مما هاج فتح مكة ، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس ، فقال ‏:‏

يا رب إني ناشد محمدا * حلف أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتم ولدا وكنا والدا * ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا اعتدا * وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا * إن سيم خسفا وجهه تربدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا * إن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك الموكدا * وجعلوا لي في كداء رصدا

وزعموا أن لست أدعوا أحدا * وهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالوتير هجدا * وقتلونا ركعا سجدا

يقول ‏:‏ قتلنا وقد أسلمنا ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ ويروى أيضاً ‏:‏

فانصر هداك الله نصرا أيدا *

قال ابن هشام ‏:‏ ويروى أيضاً ‏:‏

نحن ولدناك فكنت ولدا *

قال ابن إسحاق ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ نصرت يا عمرو بن سالم ‏.‏ ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء ، فقال ‏:‏ إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب ‏.‏

 ذهاب ابن ورقاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم شاكياً وتعرف أبي سفيان أمره ‏:‏

ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فأخبروه بما أصيب منهم ، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس ‏:‏ كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ، ويزيد في المدة ‏.‏

ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان ، قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليشد العقد ، ويزيد في المدة ، وقد رهبوا الذين صنعوا ‏.‏

فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء ، قال ‏:‏ من أين أقبلت يا بديل ‏؟‏ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال ‏:‏ تسيرت في خزاعة في هذا الساحل ، وفي بطن هذا الوادي ؛ قال ‏:‏ أو ما جئت محمداً ‏؟‏ قال ‏:‏ لا ؛ فلما راح بديل إلى مكة ، قال أبو سفيان ‏:‏ لئن جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى ، فأتى مبرك راحلته ، فأخذ من بعرها ففته ، فرأى فيه النوى ، فقال ‏:‏ أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً ‏.‏

 خروج أبي إلى المدينة سفيان للصلح وإخفاقة ‏:‏

ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان ؛ فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه ؛ فقال ‏:‏ يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ‏؟‏

قالت ‏:‏ بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس ، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال ‏:‏ والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر ‏.‏

ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ، فلم يرد عليه شيئاً ، ثم ذهب إلى أبي بكر ، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ ما أنا بفاعل ، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه ، فقال ‏:‏ أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ‏.‏

ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها ، وعندها حسن بن علي ، غلام يدب بين يديها ، فقال ‏:‏ يا علي إنك أمس القوم بي رحماً ، وإني قد جئت في حاجة ، فلا أرجعن كما جئت خائباً ، فاشفع لي إلى رسول الله ؛ فقال ‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ‏!‏ والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه ‏.‏

فالتفت إلى فاطمة ، فقال ‏:‏ يا ابنة محمد ، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس ، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ‏؟‏

قالت ‏:‏ والله ما بلغ بني ذلك أن يجير بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ‏:‏ يا أبا الحسن ، إني أرى الأمور قد اشتدت علي ، فانصحني ؛ قال ‏:‏ والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك شيئاً ، ولكنك سيد بني كنانة ، فقم فأجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك ؛ قال ‏:‏ أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً ‏؟‏

قال ‏:‏ لا والله ، ما أظنه ، ولكني لا أجد لك غير ذلك ‏.‏ فقام أبو سفيان في المسجد ، فقال ‏:‏ أيها الناس إني أجرت بين الناس ‏.‏ ثم ركب بعيره فانطلق ، فلما قدم على قريش ، قالوا ‏:‏ ما وراءك ‏؟‏

قال ‏:‏ جئت محمداً فكلمته ، فوالله ما رد علي شيئاً ، ثم جئت ابن أبي قحافة ، فلم أجد فيه خيراً ، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو

قال ابن هشام ‏:‏ أعدى العدو ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم ، وقد أشار علي بشيء صنعته ، فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئاً أم لا ‏؟‏ قالوا ‏:‏ وبم أمرك ‏؟‏ قال ‏:‏ أمرني أن أجير بين الناس ، ففعلت ؛ قالوا ‏:‏ فهل أجاز لك محمد ‏؟‏ قال ‏:‏ لا ، قالوا ‏:‏ ويلك ‏!‏ والله إن زاد الرجل على أن لعب بك ، فما يغني عنك ما قلت ‏.‏ قال ‏:‏ لا والله ، ما وجدت غير ذلك ‏.‏

 الاستعداد لفتح مكة ‏:‏

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز ، وأمر أهله أن يجهزوه ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها ، وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال ‏:‏ أي بنية ‏:‏ أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه ‏؟‏

قالت ‏:‏ نعم فتجهز ، قال ‏:‏ فأين ترينه يريد ‏؟‏ قالت ‏:‏ لا والله ما أدري ‏.‏ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة ، وأمرهم بالجد والتهيؤ ، وقال ‏:‏ اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها ‏.‏ فتجهز الناس ‏.‏

 حسان يحث الناس على فتح مكة ‏:‏

فقال حسان بن ثابت يحرض الناس ، ويذكر مصاب رجال خزاعة ‏:‏

عناني ولم أشهد ببطحاء مكة * رجال بني كعب تحز رقابها

بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم * وقتلى كثير لم تجن ثيابها

ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي * سهيل بن عمرو وخزها وعقابها

وصفوان عود حن من شفراسته * فهذا أوان الحرب شد عصابها

فلا تأمننا يا بن أم مجالد * إذا احتلبت صرفا وأعصل نابها

ولا تجزعوا منا فإن سيوفنا * لها وقعة بالموت يفتح بابها

قال ابن هشام ‏:‏ قول حسان ‏:‏ بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم ، يعني ‏:‏ قريشاً ؛ وابن أم مجالد ، يعني ‏:‏ عكرمة بن أبي جهل ‏.‏

 كتاب حاطب يحذر أهل مكة ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا ، قالوا ‏:‏ لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم ‏.‏

ثم أعطاه امرأة زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة ، وزعم لي غيره أنها سارة ، مولاة لبعض بني عبدالمطلب وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً ، فجعلته في رأسها ، ثم فتلت عليه قرونها ، ثم خرجت به ‏.‏

 الخبر من السماء بما فعل حاطب ‏:‏

وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما ، فقال ‏:‏ أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش ، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم فخرجا حتى أدركاها بالخليقة ، خليقة بني أبي أحمد ، فاستنزلاها ، فالتمسا في رحلها ، فلم يجدا شيئاً ‏.‏

فقال لها علي بن أبي طالب ‏:‏ إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكذبنا ، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك ، فلما رأت الجد منه ، قالت ‏:‏ أعرض فأعرض فحلت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه ‏.‏

فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً ، فقال ‏:‏ يا حاطب ما حملك على هذا ‏؟‏ فقال ‏:‏ يا رسول الله ، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيرت ولا بدلت ، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل ، فصانعتهم عليهم ‏.‏

فقال عمر بن الخطاب ‏:‏ يا رسول الله ، دعني فلأضرب عنقه ، فإن الرجل قد نافق ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر ، فقال ‏:‏ اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم ‏.‏

فأنزل الله تعالى في حاطب ‏:‏ ‏(‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ‏)‏ إلى قوله ‏:‏ ‏(‏ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ، إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ‏)‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ إلى آخر القصة ‏.‏

 خروج الرسول إلى مكة ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود ، عن عبدالله بن عباس ، قال ‏:‏ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره ، واستخلف على المدينة أبا رهم ، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري ، وخرج لعشر مضين من رمضان ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصام الناس معه ، حتى إذا كان بالكديد ، بين عسفان وأمج أفطر ‏.‏

 تلمس قريش أخباره عليه السلام ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين ، فسبعت سليم ، وبعضهم يقول ألفت سليم ، وألفت مزينة ، وفي كل القبائل عدد وإسلام ، وأوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار ، فلم يتخلف عنه منهم أحد ‏.‏

فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران ، وقد عميت الأخبار عن قريش ، فلم يأتهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولايدرون ما هو فاعل ‏.‏

وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء ، يتحسسون الأخبار ، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به ، وقد كان العباس بن عبدالمطلب لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق ‏.‏

 هجرة العباس ‏:‏

قال ابن هشام ‏:‏ لقيه بالجحفة مهاجراً بعياله ، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض ، فيما ذكر ابن شهاب الزهري ‏.‏

 إسلام أبي سفيان بن الحارث وعبدالله بن أبي أمية ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً بنيق العقاب ، فيما بين مكة والمدينة ، فالتمسا الدخول عليه ، فكلمته أم سلمة فيهما ، فقالت ‏:‏ يا رسول الله ، ابن عمك وابن عمتك وصهرك ؛ قال ‏:‏ لا حاجة لي بهما ، أما ابن عمي فهتك عرضي ، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال ‏.‏

قال ‏:‏ فلما خرج الخبر إليهما بذلك ، ومع أبي سفيان بني له ‏.‏ فقال ‏:‏ والله ليأذنن لي أو لأخذن بيدي بني هذا ، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً ؛ فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما ، ثم أذن لهما ، فدخلا عليه ، فأسلما ‏.‏

 ما أنشده أبو سفيان في إسلامه ‏:‏

وأنشد أبو سفيان بن الحارث قوله في إسلامه ، واعتذر إليه مما كان مضى منه ، فقال ‏:‏

لعمرك إني يوم أحمل راية * لتغلب خيل اللات خيل محمد

لكالمدلج الحيران أظلم ليله * فهذا أواني حين أهدي وأهتدي

هداني هاد غير نفسي ونالني * مع الله من طردت كل مطرد

أصد وأنأى جاهداً عن محمد * وأدعى وإن لم أنتسب من محمد

هم ما هم من لم يقل بهواهم * وإن كان ذا رأي يلم ويفند

أريد لأرضيهم ولست بلائط * مع القوم ما لم أهد في كل مقعد

فقل لثقيف لا أريد قتالها * وقل لثقيف تلك ‏:‏ غيري أوعدي

فما كنت في الجيش الذي نال عامراً * وما كان عن جرا لساني ولا يدي

قبائل جاءت من بلاد بعيدة * نزائع جاءت من سهام وسردد

قال ابن هشام ‏:‏ ويروى ‏:‏ ودلني على الحق من طردت كل مطرد ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فزعموا أنه حين أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ‏:‏ ونالني مع الله من طردت كل مطرد ، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره ، وقال ‏:‏ أنت طردتني كل مطرد ‏.‏

 إسلام أبي سفيان على يدي العباس بن عبدالمطلب ‏:‏

فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران ، قال العباس بن عبدالمطلب ‏:‏ فقلت ‏:‏ واصباح قريش ، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه ، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر ‏.‏

قال ‏:‏ فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ، فخرجت عليها ‏.‏ قال ‏:‏ حتى جئت الأراك ، فقلت ‏:‏ لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة ، فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة ‏.‏

قال ‏:‏ فوالله إني لأسير عليها ، وألتمس ما خرجت له ، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء ، وهما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول ‏:‏ ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً ، قال ‏:‏ يقول بديل ‏:‏ هذه والله خزاعة حمشتها الحرب ‏.‏ قال ‏:‏ يقول أبو سفيان ‏:‏ خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها ‏.‏

قال ‏:‏ فعرفت صوته ، فقلت ‏:‏ يا أبا حنظلة ، فعرف صوتي ، فقال ‏:‏ أبو الفضل ‏؟‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ نعم ، قال ‏:‏ ما لك ‏؟‏ فداك أبي وأمي ، قال ‏:‏ قلت ‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس ، واصباح قريش والله ، قال ‏:‏ فما الحيلة ‏؟‏ فداك أبي وأمي ، قال ‏:‏ قلت ‏:‏ والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك ، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمنه لك ؛ قال ‏:‏ فركب خلفي ورجع صاحباه ‏.‏

قال ‏:‏ فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين ، قالوا ‏:‏ من هذا ‏؟‏ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها ، قالوا ‏:‏ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته ‏.‏

حتى مررت بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال ‏:‏ من هذا ‏؟‏ وقام إلي ؛ فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة ، قال ‏:‏ أبا سفيان عدو الله ‏!‏ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وركضت البغلة ، فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء ‏.‏

قال ‏:‏ فاقتحمت عن البغلة ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل عليه عمر ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، هذا أبو سفيان أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد ، فدعني فلأضرب عنقه ‏.‏

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ يا رسول الله ، إني قد أجرته ، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذت برأسه ، فقلت ‏:‏ والله لا يناجيه الليلة دوني رجل ؛ فلما أكثر عمر في شأنه ، قال ‏:‏ قلت ‏:‏ مهلاً يا عمر ، فوالله أن لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا ، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف ؛ فقال ‏:‏ مهلا يا عباس ، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم ، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم ‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اذهب به يا عباس إلى رحلك ، فإذا أصبحت فأتني به ؛ قال ‏:‏ فذهبت به إلى رحلي ، فبات عندي ، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ‏!‏ ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله ‏؟‏

قال ‏:‏ بأبي أنت وأمي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ‏!‏ والله قد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد ، قال ‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ‏!‏ ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ بأبي أنت وأ مي ، ما أحملك وأكرمك وأوصلك ‏!‏ أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً ‏.‏

فقال له العباس ‏:‏ ويحك ‏!‏ أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك ‏.‏ قال ‏:‏ فشهد شهادة الحق ، فأسلم ‏.‏

قال العباس ‏:‏ قلت ‏:‏ يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر ، فاجعل له شيئاً ، قال ‏:‏ نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يا عباس ، أحبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل ، حتى تمر به جنود الله فيراها ‏.‏

قال ‏:‏ فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي ، حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه ‏.‏

 عرض الجيش على أبي سفيان ‏:‏

قال ‏:‏ ومرت القبائل على راياتها ، كلما مرت قبيلة قال ‏:‏ يا عباس من هذه ‏؟‏ فأقول ‏:‏ سليم ، فيقول ‏:‏ ما لي ولسليم ، ثم تمر القبيلة فيقول ‏:‏ يا عباس ، من هؤلاء ‏؟‏ فأقول ‏:‏ مزينة ، فيقول ‏:‏ ما لي ولمزينة ، حتى نفذت القبائل ، ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها ، فإذا أخبرته بهم ، قال ‏:‏ ما لي ولبني فلان ، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء ‏.‏

 كتيبته صلى الله عليه وسلم في فتح مكة ‏:‏

قال ابن هشام ‏:‏ وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها ‏.‏

قال الحارث بن حلزة اليشكري ‏:‏

ثم حجرا أعنى ابن أم قطام * وله فارسية خضراء

يعنى ‏:‏ الكتيبة ، وهذا البيت في قصيدة له ، وقال حسان بن ثابت الأنصاري ‏:‏

لما رأى بدراً تسيل جلاهه * بكتيبة خضراء من بلخزرج

وهذا البيت في أبيات له قد كتبناها في أشعار يوم بدر ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فيها المهاجرون والأنصار ، رضي الله عنهم ، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد ، فقال ‏:‏ سبحان الله ‏:‏ يا عباس من هؤلاء ‏؟‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار قال ‏:‏ ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ؛ والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً ، قال ‏:‏ قلت ‏:‏ يا أبا سفيان ، إنها النبوة ، قال ‏:‏ فنعم إذن ‏.‏

 أبو سفيان يحذر أهل مكة ‏:‏

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ النجاء إلى قومك ، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته ‏:‏ يا معشر قريش ، هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فقامت إليه هند بنت عتبة ، فأخذت بشاربه ، فقالت ‏:‏ اقتلوا الحميت الدسم الأحمس ، قبح من طليعة قوم ‏!‏ ‏.‏

قال ‏:‏ ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ؛ قالوا ‏:‏ قاتلك الله ‏!‏ وما تغنى عنا دارك ؛ قال ‏:‏ ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد ‏.‏

 وصوله عليه السلام إلى ذي طوى ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن أبي بكر ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجراً بشقة برد حبرة حمراء ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل ‏.‏